وللمزيد هذا المقال
عبد الرحمن بدوي: بين غربة الفلسـفة .. وغربة المنفـى
تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨بقلم فخر الدين فياض
ميزة الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه استطاع أن ينأى بفكره ونفسه عن الأيديولوجيات الثورية، الثورة والأهداف والشعارات في عصر ازدهار هذه الأيديولوجيات في العالم العربي، إن كانت قومية أو ماركسية، وربما يكون لاعتباره فيلسوفاً وجودياً بعض الحقيقة والصواب، ولكن دون أن ينغمس في لجة الأيديولوجية التي مثلتها الوجودية في العالم آنذاك أيضاً.
فإن كانت الوجودية تعلي من قيمة الإنسان وتؤكد على تفرده، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه فخير من مثلها في العالم العربي كان عبد الرحمن بدوي.
فالوجوديون يؤمنون إيماناً مطلقاً بالوجود الإِنساني ويتخذونه منطلقاً لكل فكرة. كما يعتقدون بأن الإِنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدماً وأن وجود الإِنسان سابق لماهيته.
ويرون أن الأديان والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحل مشكلة الإِنسان، في الحرية والسعي اللانهائي نحو الحقيقة. وأنهم يعملون لإِعادة الاعتبار الكلي للإِنسان ومراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره.
فأصحاب الفكر الوجودي يؤمنون بحرية الإِنسان المطلقة وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء وبأي وجه يريد دون أن يقيده شيء. وأن على الإِنسان أن يطرح الماضي وينكر كل القيود دينية كانت أم اجتماعية أم فلسفية أم منطقية.
ولا يؤمنون بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، إنما على كل إنسان يفعل ما يريد وليس لأحد أن يفرض قيماً أو أخلاقاً معينة على الآخرين.
ومن المعروف أن الوجودية قد جاءت كردة فعل على تسلط الكنيسة وتحكمها في الإِنسان بشكل متعسف باسم الدين. وتأثرت بالعلمانية وغيرها من الحركات التي صاحبت النهضة الأوروبية ورفضت الدين والكنيسة.
وليس أكثر تعبيراً عنها من مقولة سارتر، كبير الوجوديين، نحن محكومون بالحرية.
فلقد كانت الحرية من أهم القضايا التي تبحثها الفلسفة الوجودية، وتهتم بها. وهي عند الوجوديين عامةً تعتبر الوجود الإنساني نفسه. وهي ضرورة، لكي يحقق الإنسان وجوده. وهي من أهم المرتكزات عند سارتر، فهو يرى إن الإنسان حر، وأن له الحق، أن يكون (هو..هو). وأن الحرية الإنسانية تأتي إلى المرء من الشعور بأنه غريب عن العالم اللامعقول هذا.
أكاد أقول أن عبد الرحمن بدوي، بكل غزارة إنتاجه 200 كتاب بين تأليف وترجمة وتحقيق، لم يبتعد عن هذا الإخلاص للحقيقة وللحرية معاً.
ومن المفيد بعد هذه المقدمة أن نلقي الضوء على سيرته الشخصية، مستندين بذلك على (ويكيبيديا ـ الموسوعة الحرة) والتي تؤكد على أنه أول فيلسوف وجودي مصري، وعلى شده تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر.
ولد عبد الرحمن بدوي في قرية شرباص ـ دمياط (4شباط 1917) وكان تسلسله الخامس عشر من بين 21 شقيقا وشقيقة. وفي عام 1934 أنهى دراسته الثانوية حيث حصل على الترتيب الثاني على مستوى مصر من مدرسة السعيدية، وهي مدرسة اشتهر بأنها لأبناء الأثرياء والوجهاء. التحق بعدها بجامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم الفلسفة، سنة 1934، وتم إرساله إلى ألمانيا والنمسا أثناء دراسته، وعاد عام 1937 إلى القاهرة، ليحصل في نيسان 1938 على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة.
والدهُ بدوي بدوي محمود، عمدة القرية، تعرض لمحاولة اغتيال قبل ولادة عبد الرحمن بأربعة سنين، وهو من أثرياء منطقته.
بعد إنهائه الدراسة تم تعينه في الجامعة كمعيد ولينهي بعد ذلك دراسة الماجستير ثم الدكتوراه عام 1944 من جامعة القاهرة. عنوان رسالة الدكتوراة الخاصة به كان: "الزمن الوجودي" التي علق عليها طه حسين أثناء مناقشته لها عام 1944 قائلا: "أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى". وناقش بها بدوي مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي.
عين بعد حصوله على الدكتوراه مدرسا بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة 1945 ثم صار أستاذا مساعدا في نفس القسم والكلية سنة 1949. ترك جامعة القاهرة في 1950، ليقوم بإنشاء قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة عين شمس، وفي حزيران 1959 أصبح أستاذ كرسي. عمل مستشارا ثقافيا ومدير البعثة التعليمية في بيرن في سويسرا (1956ـ 1958) ثم غادر إلى فرنسا 1962 بعد أن جردت ثورة 23 يوليو عائلته من أملاكها. حيث عمل كأستاذ جامعي في العديد من جامعات العالم أهمها جامعتي السوربون، وجامعة الكويت.
له ما يقرب من 200 كتاب حسب محمود أمين العالم، بينما قال أحد ناشريه إن كتبه التي نشرها تجاوزت 150 كتابا منذ كتابه الأول عن نيتشه الذي صدر عام 1939.
من الصعب حصر أعمال بدوي في إطار ما، فلا إطار يمكنه استيعابها، لشدة تنوعها وغزارتها، والملاحظة الهامة هنا، أن رغم تعدد مجالات البحث والتفلسف عنده، فقد ظلت بحوثه تتمتع بنفس المستوى من البحث العلمي ـ الفلسفي الذي لا يغيب عنه المنهج الصارم والجهد المضني وراء حقيقة المفاهيم والأشياء والواقع.
فلقد توزَّعت أعماله بين بحور متنوعة ولا نهاية لها، بدء من الساحل اليوناني القديم في الفلسفة والمنطق، أفلاطون وأرسطو، حول ربيع الفكر اليوناني وخريفه ومدارسه المتأخرة .. ليمتد نحو ساحلٌ آخر، هو فلسفُة الإسكندرية، وأفلوطين ، ثم فلسفة العصور الوسطى. وثمةَ ساحلٌ آخر ـ حسب تعبير محسن بدوي ـ مقابل، ممتد في التاريخ، تقف على شواطئه أعمال بدوى الرائدة في ذلك المحيط الواسع : الإسلاميات .. (أكثر من عشرين كتاباً) .
أما البحر الأوسع فكان في الفكر المعاصر، حيث نجد الفلسفة الحديثة والمعاصرة في كتاب مثل نيتشه ونجد الشعر الألماني في دراسة متعمِّقة حول ريلكة .. وما بين الكتاب والدراسة ، ما يقربُ من خمسةٍ وخمسين عاماً من عمر عبد الرحمن بدوى وما يزيد عن مائة كتاب من جهوده المضنية .
باريس شهدت ولادة معظم أعمال بدوي، وفي باريس سقط مغشيًا عليه في أحد شوارعها في أيلول من عام 2002 ليتصل طبيب فرنسي بالقنصلية المصرية بأن أمامه فيلسوف مصري يطلب مساعدتهم!!
وربما كان لذلك مغزى كبيراً يتعلق بحياتنا الثقافية كعرب، أن يعيش فيلسوف ومفكر مثل عبد الرحمن بدوي حياته في باريس، كمنفى إجباري وليس اختياري، منفى يستطيع التعبير من خلاله عن أرائه وأفكاره ويغوص بحرية في مجالات بحثية بعيداً عن تابوات تأخرنا، وعن مقص الرقيب السياسي،
وعن الأيديولوجيات الحاكمة، هو أمر له دلالات بعيدة.
وأن يسقط أخيراً في أحد شوارع ذلك المنفى دون أهل ودون وطن، غريباً على قارعة الطريق.. فيلسوف العرب الأول .. وربما الوحيد الذي كانت له هذه الغزارة وهذا العمق وهذا الألق الباقي في لغات العالم المتعددة وثقافاته.
بقي أن نقول أنه حين نشر مذكراته في عام 2000، في كتاب ضخم من جزئين، وصل عدد صفحاته إلى 768 صفحة، لدى المؤسسة العربية للدراسات والنشر. كان لتلك المذكرات صدى ضخماً لدى الكثير من المثقفين المصريين والعرب عموماً، وذلك لأن بدوي هاجم الكثير ممن أعتبرهم المثقفين العرب رموزا للفكر. وهاجم الأنظمة العربية (خصوصاً النظام المصري وحكم جمال عبد الناصر) موجها انتقادات شتى، ومعتبراً أن العالم العربي في الخمسين عاماً الماضية كان خارج التاريخ الثقافي للعالم، وربما تبدو عودته ليسير مع هذا التاريخ مستحيلة، إذ أن لإشكالية الحرية أبعادها الوجودية التي استعصت على تركيبة العرب في النصف الثاني من القرن المنصرم
لتحميل الكتب
سلمان الفارسي/الحلاج/السهرودي: شخصيات قلقة في الاسلام + مباهلة النبي لنصراني نجران
.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Allo !