محاضرة مفيدة جدا للاستاذ الدكتور كمال عبد اللطيف أستاذ التعليم العالي بشُعبة الفلسفة كلية الآداب / جامعة محمد الخامس –المغرب
موضوع المحاضرة هو "الإسلام والغرب " وهناك عنوان فرعي لعله يضىء الغاية البعيدة لهذه المحاضرة ، وهو مساهمة في بناء جدلية الاستيعاب والتجاوز – جدلية الخصومة والصراع والمشاكل التي بيننا ، بين عالم الإسلام وبين أوروبا وبين الغرب على وجه العموم ، لكن قبل أن أنطلق في تقديم بعض العناصر أمامكم حسبما يقتضيه المقام ، أريد أن أنطلق من بعض المقدمات :
المقدمة الأولى : عندما نتأمل بسرعة الزوج المفهومي الذي يشكل عنوان المحاضرة "الإسلام والغرب " نكتشف أننا نواجه مفهومين غير متكافئين من ناحية الإحالة المرجعية ، فالإسلام كما تعرفون يُحيل إلى عقيدة بعينها ، الإسلام كما نقول المسيحية – النصرانية – اليهودية – الإسلام المرجعية العامة ، ديانة من ديانات الكتاب ، وعندما نقول الغرب ، نُحيل إلى مستوى جغرافي ، فإذن لو قلنا – الإسلام والنصرانية كما كتب محمد عبده ، ذات يوم في نهاية القرن التاسع عشر كتابه الشهير ( الإسلام والنصرانية ) وقد صدر في عنوان آخر في فترة لاحقة بعنوان (الإسلام دين العلم والمدنية ) لو قلنا ( الإسلام والنصرانية )لجاء العنوان متطابقاً ومتكافئاً من الناحية النظرية – ديانة من ديانات الكتاب في مواجهة أختها السابقة عليها – لكن كيف نتغلب على هذا الالتباس الذي يبدو أنه يواجهنا منذ البداية – الإسلام والغرب ، هناك مسألة أخرى وهي أن الصراع بين دار الإسلام ، أنا هنا أطور تفكيري في الموضوع أنتقل من الإسلام إلى دار الإسلام وما نعرفه في الأدبيات الإسلامية في العصور الوسطى بدار الكفر – أي الديار التي لا يوجد فيها الإسلام ، هو صراع قديم ، ليست الحروب الصليبية ، ولا حروب الاستعمار هي آخر الصراعات التي حصلت بيننا وبين الغرب ، وحتى قبل حين بعد حادثة 11 سبتمبر كان الرئيس الأمريكي بوش قد أعلن أن حرباً صليبية جديدة ستنطلق ، معناه أن الصراع بيننا وبين الغرب في المرحلة الاستعمارية وما تلاها وإلى حدود هذه اللحظة هو صراع تطبق ظلاله على الموضوع ، فلا نعرف كيف نفكر فيه ، عندما تتحكم بعض المعطيات الصراعية في موضوعاتنا نجد صعوبة في الإلمام بها ، ووضع اليد على عناصرها النظرية .
هناك أمر آخر يضاعف الصعوبة ، وهو أن هذا الموضوع موضوع مشاع ، ويتحدث فيه المتحدثون من خلفيات مرجعية مختلفة ، وفي بعض الأحيان تكون كثرة الأدبيات وكثرة الكتابات عن موضوع بعينه لا تُسعف بالرؤية ، بل لعلها تساهم في مزيد من إدخاله في دائرة الغموض ، فمن الكتابات الكثيرة ما يعمي البصيرة والبصائر ، ولا يجعلنا نعرف ما هو المقصود – لا بالإسلام ولا بالغرب ، ولا أكتمكم أنني وأنا أهيئ هذه الورقة كنت قد رجعت إلى بعض الكتابات في الموضوع ، فلم تسعفني بالخيوط التي يمكن أن تؤدي بي إلى تجاوز معضلة التسميات ، ومعضلة المحتويات في موضوع العلاقة بين الإسلام والغرب ، وكما قلت قبل قليل إن أحداث 11 سبتمبر أضافت صعوبات أخرى خاصة وأنه تم اتهام جهة إسلامية معينة في شخص " بن لادن " باعتباره وراء ما حصل ، وفي البداية قالوا إن الإسلام ، ولم يقولوا إن تصوراً معيناً (( تصور طالبان وبن لادن )) بل قالوا إن الإسلام يريد تحطيم مكاسب حضارة معاصرة ، وأضافوا إلى مشاكلنا مع الغرب ومع الآخرين مشاكل أخرى ، هذا لا يعني أنه لم تكن بيننا وبين الآخرين وبين الغرب مشاكل ، فالأراضي العربية المحتلة في فلسطين ، والأراضي العربية المحتلة في مناطق أخرى في العالم العربي والعالم الإسلامي ، كلها عناصر دالة على وجود خصام تاريخي متواصل بيننا وبين الغرب .
نظراً لكل ما سبق كيف يمكن أن نقترب من هذا الموضوع من أجل توضيح بعض القضايا بصورة تمكننا من التطور في فهم العلاقة بين الإسلام والغرب ؟ انتبهت منذ مدة وأنا أشتغل بأسئلة الفكر الفلسفي ، والفكر في المغرب العربي إلى أن المغاربة أو المغارب ، المثقفين في بلدان المغرب العربي بعضهم بلور في مجال التفكير في النهضة العربية وفي الإسلام وفي الغرب وفي الآخر ، جهداً في الفكر لعله يمكن أن يمدنا بعناصر أكثر وضوحاً وأكثر عقلانية يمكن أن تفيدنا في بناء تصورات ، يمكن أن تكون ذات نجاعة تاريخية ،يمكن أن تفيدنا في باب التغلب على محننا ، وعلى مشاكلنا في علاقتنا بذاتنا وفي علاقتنا بالآخرين ، وجدت أن الفكر المغاربي المعاصر ساهم في بناء معطيات ، أولى مزاياها هي أنها معطيات لا يمكن أن ندرجها ضمن المواقف الحدية القاطعة ، مواقف أكثر مرونة ، مواقف تعطي الأولوية للجانب الفكري والجانب الثقافي ، تقلص وتقلل من أهمية الهواجس السياسية والأسئلة السياسية ، وتقدم محاولة في بناء تصورات يمكن أن تكون مفيدة في الحاضر والمستقبل خارج التخندقات السياسية المباشرة ، ولعلكم تعرفون أنه في باب العلاقة بين الإسلام والغرب ، الإسلام كعقيدة وتاريخ ، والغرب كثقافة وتاريخ ، على الأقل يمكن العثور على موقفين معروفين منذ أدبيات عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر : الموقف السلفي والموقف التغريبي ، الموقف السلفي هو موقف يرى أن التحصن بالذات وبالتاريخ المحلي وبالخصوصية التاريخية وبالاجتهاد في إعادة بناء الإسلام قد يكون أفيد في مواجهة التأخر التاريخي في عالمنا العربي الإسلامي ، والموقف الثاني يرى أن الانبراج في أفق معطيات الحضارة الغربية قد يكون أجدى ، فهذا زمن الصعود الغربي ، ومن حقنا أن نستفيد من مكاسب الحضارة الغربية مثل الآخرين ، ودعا أصحابه إلى قليل أو كثير من التغرب أو التأورب على حساب العناية بمكونات الهوية ، وخاصة المكون الإسلامي في هذه المواقف التي سنهتم بها اليوم ، لا نجد مثل هذه المواقف ، لا نجد أنفسنا أمام مواقف متحزبة للدعوة للماضي و التحصن بالماضي ، وبالتراث الإسلامي ، وبالإسلام على وجه الخصوص ، ولا نجد مواقف تقبل أن نكون تابعين مقلدين متغربين دون حساب للخصوصيات التاريخية والمصالح التاريخية وحساب الإبداع حتى لا نكون مجرد أمة يمكن أن تنطلق في التعلم من مكاسب الآخرين ، دون أن تعتني بمسألة أن تكون مبادرة وأن تكون مبدعة ، وأن تكون متمتعة بحقها في الذكاء البشري.
إذن مواقف المفكرين الذين سنهتم بهم ، ليست مواقف متغربة ، ولا مواقف سلفية ، ولعلكم تعرفون أن المواقف السلفية ذهبت بعيداً، وإذا كان محمد عبده قد قبل مبدأ التوفيق بين بعض مكاسب الحضارة الغربية والإسلام ، حيث أبرز في كثير من كتاباته أنه لا تناقض بين السياسة والإسلام ولا تناقض بين العلم والدين ، فإننا نجد أن بعض السلفيين المتأخرين في الخمسينيات قد دعوا تماماً إلى رفض أوروبا ورفض الغرب ، الأمر الذي يبدو أن فيه الكثير من الجذرية والكثير من الرادكالية المتحصنة بالذات دون مراعاة التحولات التي طرأت على الزمن ، وعلى التاريخ وعلى الفكر .
نتجه في هذه المقارنة لتقديم جهود الأسماء الآتية :
- جهود الأستاذ : عبد الله العروى – المفكر المغربي المعروف .
- جهود الباحث الأستاذ المفكر الجزائري : محمد أركون .
- جهود المفكر التونسي : هشام جعيط .
- جهود محمد عابد الجابري .
وهذه الجهود مجتمعة أسست في نظري أفقاً جديداً في الثقافة المغاربية وفي الثقافة العربية وهي لاتزال بصدد تأسيس هذا الأفق وإعادة تأسيسه ، وأفترض أن جهودها أثمرت في النهاية مساحة نظرية متميزة داخل مجال الفكر المغاربي والفكر العربي المعاصر دون حساسية أصبحت متداولة فيما يعرف " مشرق مغرب" . وأنا شخصياً كتبت ضد هذه التمايزات ، فنحن كلنا في الهم شرق ، وهم كلهم في الهم مغرب ومغارب ، فالتمايزات بيننا هي تمايزات تغني ذاتنا التاريخية المتنوعة والمتعددة – أنا لا أقرؤها هنا بحساب انتماء معين ، أنا أقرؤها كرافد قوي في الثقافة العربية المعاصرة - فقد تعلمنا في المغرب العربي كثيراً من زملائنا وأساتذتنا وأقطاب الفكر في المشرق العربي – ولعل ما ينتجه المغاربة اليوم هو جزء من ثمار الحضور المشرقي في ثقافتنا في بلدان المغرب العربي ، إذن دعوكم من أن تكون الورقة متحيزة لجهة على حساب أخرى في موضوع الإسلام والغرب داخل كتابة هؤلاء ، وسأحدثكم عن هذه الكتابات ، ويجب أن تنتبهوا جيداً داخل كتابة هؤلاء .
يرد موضوع العلاقة بين الإسلام والغرب في إطار التفكير في كيفية النهوض العربي – كيف يستطيع العرب تجاوز تأخرهم ، وما آلت إليه أوضاعهم اليوم ؟
وهم جميعاً يشتركون في خاصية أساسية في المستوى الزمني ، وهو أنهم بدءوا الكتابة في الربع الأخير من القرن العشرين ، أقدمهم في مستوى الإنتاج هو الأستاذ:
" عبدالله العروي " فقد صدرت له الإيديولوجية العربية المعاصرة سنة 1967 ، وصدر له بعدها كتابه الهام " العرب والفكر التاريخي " وقد صدر بالفرنسية بعنوان " أزمة المثقفين العرب " 1970. 1974ف ، ثم توالت كتاباته في سلسلة كتب المفاهيم من 1980 وحتى 1996 ف ، " مفهوم الإيديولوجية – مفهوم الحرية – مفهوم الدولة – مفهوم التاريخ ، وآخر أعمال هذه السلسلة مفهوم العقل وقد صدر عام 1996ف. إذن ما سأقوله على عبد الله العروي ينسحب على كل هذه المؤلفات ، حيث تقترب مؤلفاته اليوم من عشرين مؤلفاً بالإضافة إلى بعض الروايات ، وهي كلها مؤلفات تتسم بسمات الفكر التاريخي النقدي .
" هشام جعيط " بدأ تأليفه متأخراً – صدر له سنة 1978ف أول كتاب بعنوان " الشخصية العربية والمصير الإسلامي " ،ثم صدر له بعد ذلك كتابه أطروحة عن الكوفة – وجدلية الصراع في الإسلام المبكر " حول الفتنة في موضوع الفتنة التي حصلت في بداية الإسلام ، ثم صدر له قبل سنتين مصنف " الوحي في موضوع السيرة النبوية " وهو من الكتب المهمة جداً ، وهو غير متداول للأسف بكثرة ، ثم صدر له سنة 2000 مصنف " أزمة الثقافة الإسلامية " والكتاب الذي حدثتكم عنه صدر سنة 1974ف ، أما الكتاب الذي صدر سنة 1978ف فهو " أوروبا والإسلام " وهو الوحيد بين هؤلاء الذي كتب كتاباً بعنوان موضوع الندوة ، " أوروبا والإسلام " وهو كتاب هام جداً مصنفات قليلة ، ولكن كما ستلاحظون عندما أنطلق في التحليل وفي تقديم العناصر التي أؤكد بواسطتها معطيات في فهم علاقة الإسلام بالغرب – ستكتشفون أن هذا الرجل يتمتع بمواصفات خاصة بالمقارنة مع زملائه .
محمد أركون ، ومحمد عابد الجابري ، اشتهرا بكونهما معاً – كتبا في موضوع " نقد العقل العربي الإسلامي ، بدءا معاً في سنة واحدة .. صدر الجزء الأول لنقد العقل للجابري وعنوانه: تكوين العقل العربي سنة 1984 ، وصدر بالفرنسية كتاب محمد أركون : نقد العقل الإسلامي ، ثم صدر للجابري الأجزاء الأربعة " تكوين العقل – بنية العقل – العقل السياسي – العقل الأخلاقي " ، وصدر لمحمد أركون مجموعة من المصنفات من أبرزها والذي سأهتم به ، مصنف في موضوع قراءة القرآن – مجموعة من الدراسات قرأ فيها بعض السور وبعض الآيات بطريقة جديدة .
قلت إن زاوية نظر هؤلاء المفكرين في الموضوع " علاقة الإسلام والغرب" يطغى فيها الهاجس الفكري أكثر من الهاجس السياسي ، ومن هنا نستطيع القول إنهم جميعاً يطرحون مسألة علاقة الإسلام بالغرب في المدى المتوسط والبعيد ، وليس في المدى الآني أي أنهم لا يبحثون عن اتخاذ موقف في صيغة بيان أو في صيغة موقف يُندد بسياسة معينة أو يشجب سياسة معينة .
انتبهوا جيداً إنهم جميعاً يعون بقوة ، الصراع القائم بيننا وبين الغرب ، ويستنكرون كل أساليب الهيمنة الغربية ولكن الموضوع الذي يهمهم أكبر من استنكار مواقف أو اتخاذ مواقف لأحداث بعينها ، يهمهم التفكير في إمكانية تحقيق تواصل بين ذاتنا التاريخية وبين عالم يحفظ لذاتنا قوتها ومكانتها ، ويسمح لنا بالتعلم من الآخرين دون إحساس بالدونية ، ودون إحساس بأننا في مرتبة أدنى من الآخرين ، إنهم يواجهون موضوعاً أصعب من المواجهات الأخرى التي تكتفي بالتخندق ، وإصدارات البيانات والبيانات المضادة ، فالمتغرب يستطيع أن يقول ما يشاء عن الإسلام ، والمسلم يستطيع أن يقول ما يشاء عن الغرب ، لكن الكلام المتخندق إن كان يفي بالغرض في مستوى المواقف الآنية فهو لا يسعف في مستوى التفكير في العمل التاريخي وفي العمل من أجل مستقبل إنسانية أكثر تواصلاً إنسانية محكومة بصراع مصالحها ، لكنها محكومة في الوقت نفسه بمستقبلها المشترك كيفما كانت الأحداث وكيفما كانت المشاكل التي بيننا وبين الآخرين .
قد يتساءل البعض : كيف يمكن الجمع بين كل هؤلاء في إطار موضوع واحد ، ونحن نعرف أن بينهم خلافات واختلافات متعددة ، صحيح ، قد يكون السؤال مهماً ، ولكن أنا لا أفكر في منتوجهما في علاقة كل واحد منهما بالآخر ، أنا أفكر في النظرة الجامعة التي تجعل مواقفهما في موضوع الإسلام والآخر مواضع تقاطع – تلتقي – تسلب بعضها تبتعد قليلاً أو كثيراً – لكنها لا تنفصل كلية – فما يهمني هو الجامع النظري بين هذه الأعمال ، اسمحوا لي أن أقول لكم : بأن الجامع النظري بين أعمال هؤلاء هو الجامع التاريخي النقدي ، فهم جميعاً يعطون اعتباراً وافياً لمسألة التاريخ .
يستحضرون التاريخ ، غالباً ، المواقف الحدية لا تستحضر التاريخ ، "محمد عبده" عندما دخل صراعاً مع " فرح أنطون" وقرأ تاريخ الإسلام وتاريخ الغرب ، كان موضوعياً وهو يقرأ تاريخ الغرب ، وكان تمجيدياً وهو يقرأ تاريخ الإسلام . المفكرون : محمد أركون ، والجابري والعروي ، وهشام جعيط ، يعرفون جيداً أن لحظات الصعود الإسلامي التي نسميها بلهجة مؤدبة في كتبنا في المدارس " الفتوحات الإسلامية " كانت لحظات هيمنة بالمعنى التاريخي للكلمة ، عندما كان المسلمون في أوج قوتهم ، ووصول الإسلام إلى مشـــارف فرنسا ( جنوب فرنسا ) ، هو جزء من إرادة الهيمنة والقوة التي مارس المسلمون في التاريخ ، وما حصل في أزمنة استعمارنا هو شكل من أشكال الهيمنة الغربية على العالم – التاريخ ماكر ، ونحن يجب ألا نتعامل مع التاريخ بأكثر من معيار ، إذا كنا نؤمن بأن الأمر كذلك ، فيجب ألا نستجدي في علاقتنا بالغرب أحداً ، بل يجب أن نفكر في أفضل السبل التي تسمح لنا بأن نعيش زماننا وأن نتعلم من الآخرين ، وأن نواجه مشاكلنا ، وأن نواجه ذاتنا بالنقد وليس بالتمجيد ، ذلك أن مشاكلنا في الوقت الراهن على الأقل تحتاج إلى كثير من النقد ، والنقد الذاتي بالدرجة الأولى ، إذن أنتج هؤلاء المفكرون نصوصاً هامة في الفكر العربي المعاصر ، وسأفكر معكم في موضوع علاقة الإسلام بالغرب انطلاقاً من هذه النصوص – كيف يمكن أن نعود إلى نصوص هؤلاء وقد ذكرت نماذج منها ، وأن نفكر في الإسلام والغرب من خلالها ، ليس الأمر سهلاً ، اكتشفت وأنا أفكر في هذا الموضوع أن أحسن وسيلة ، هي أن أركب بعض المفاهيم لعلها تسعفني في الاقتراب من روح ما أنا بصدده ، وسأقترح عليكم بعض المفاهيم التي وضعت وهي كلها مفاهيم مركبة :
المفهوم الأول :" التوتر التاريخي الموضوعي" العلاقة بين الإسلام والغرب هي علاقة توتر تاريخي وموضوعي ، وأنا في كل كلماتي سأضيف كلمة "تاريخ" لماذا ؟ لأن الحديث بدون تاريخ يحول معطيات التاريخ إلى مطلقات مثلاً : في كل ما أكتب وأفهم وأتحدث ، أقول عندما أتحدث عن تأخرنا ، أقول : إن تأخرنا عبارة عن تأخر تاريخي ، لماذا أضيف كلمة تاريخي ؟ لأنني متفائل بأن تأخرنا الحاصل اليوم نحن نستطيع تداركه ، نستطيع التغلب عليه متى وفرنا الوسائل والإمكانات التي تسمح لنا بذلك ، وتأخرنا ليس مطلقاً ، إنه تأخر حصل في التاريخ بفعل عوامل التاريخ ، ونحن ساهمنا فيما وصلنا إليه ، قد يكون الآخرون ساهموا بدورهم فيما وصلنا إليه ، ولكن نحن بإمكاننا أن نتجاوز ما آلت إليه أحوالنا متى تعلمنا كيف نجابه مصائرنا باللغة التي تقتضيها هذه المصائر ، إذن المفهوم الأول: " التوتر التاريخي الموضوعي ".
المفهوم الثاني : التمثل أو الاستيعاب النقدي والتاريخي لممكنات الحاضر المركب .
المفهوم الثالث : نحو تواصل نقدي خلاق بيننا وبين الآخرين ، ولكنه تواصل يغلب آلية النقد ، لا يقبل الأمور على علاتها ، بل يفهم الأمور في تاريخيتها ويضع مسافة بيننا وبين الآخرين ، ويتسلح بالنقد .
نبدأ بموضوع التوتر ، وسأتحدث في موضوع التوتر بيننا وبين الآخرين – بين الإسلام وبين الغرب – سأتحدث أساساً عن كتابات " جعيط والعروي".
أولاً - المقصود بالتوتر في علاقتنا بالآخرين – هو توتر في الواقع ، وتوتر في الذهن ، وتوتر في الفكر ، وهو موقف حيرة ، الموقف الذي نواجهه ربما منذ قرنين في تاريخنا الفكري والاجتماعي ، ما علاقتنا بالآخرين ؟ التوتر بين ذات وصلت إلينا – وصلت إلى قلب ديارنا . لعلكم تعرفون جميعاً أنه في منتصف القرن التاسع عشر كان العالم الإسلامي والعالم العربي قد أصبحا من المستعمرات الأوروبية . أصبح معنا في ديارنا كيان جديد ، وهــذا الكيـــان الجديد لا يمكن أن نقرأه فقط بالسلب ، تعرفون أنه في مجال الظواهر التاريخية أن هناك جوانب إيجابية، وجوانب سلبية ، وليس كل الأمور سلبية . ليس في الحياة فقط الأبيض والأسود ، فالأبيض أبيض وأبيض ، والأسود أسود أيضاً يمكن أن نجد فيه لوينات متعددة ، وبالتالي فالاستعمار هو عدو فعلي لنا ، ولكن لقد حصل أن كان في الاستعمار مغانم لنا – هذا أمر حصل ، على الأقل عندما غادر الاستعمار أرضنا لم يحمل معه الطرق التي أنشأ ، ولا المباني التي بنى ، فأصبحت جزءاً من ممتلكاتنا الرمزية ، وهو جزء لم يصنعه محبة فينا أو من أجلنا ، صنعه من أجل مصالحه – لكن بعد تحررنا المباشر من الاستعمار السياسي أصبح ما أنجزه جزءاً منا ، هذا هو عنصر السلب والإيجاب في الظواهر التاريخية ، وحتى لا نقف مواقف حدية من كل ما يجري أمامنا ، وحتى نتمتع بالمرونة الضرورية في كل الأفعال التاريخية .
إن المظهر الأبرز للتوتر في كتابات "جعيط" هو مظهر نفسي ، الذين يقرءون كتابات "جعيط" ويبحثون فيما وراء الكلمات وفيما وراء ما يكتب عن القضايا الحساسة بالنسبة له ، سيجدون أن الرجل يمتلك إحساساً رفيعاً بعنف اللحظة التاريخية التي يعيش . أذكر أنه في كتابه الأول الذي حدثتكم عنه " الشخصية والمصير العربي الإسلامي" وهو كتاب هام صدر بالفرنسية سنة 1974 وترجم بعد ذلك في دار الطليعة بموافقة المؤلف ، أذكر أن فيه فقرة يتحدث فيها عن شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بكثير من الحب : يقول إنه في نافذة بيته في باريس وهو يكتب كتابه عن الشخصية العربية يستحضر شخصية النبي العربي الذي صنع لأمته تاريخاً جديداً ، ويذكر فتوحاته ، ويذكر الآمال الكبرى التي حقق ، يتحدث لغة أقرب إلى لغة المتصوفة ، وبكثير من الشغف والحب والأمور التي تبرز أن الرجل بعكس ما يمكن أن يتصور الناس وهم يقرءون بعض صفحات كتبه الأخرى عندما يبدو أقرب إلى العلماني ، وعندما يقول مثلاً في جملة واحدة :" لينتعش" الإلحاد في مجتمعاتنا العربية الإسلامية " وهذه الجملة التي يقولها في الكتاب قريبة من الجملة التي كان قبل حين قد كتبها متحدثاً عن مزايا الرسول العربي ، وقوته وقوة رسالة امتلكت القدرة على اختراق الزمن ما يزيد عن كل هذه القرون . هنا أنا أقول : إن الرجل متوتر بين ما يفكر فيه وبين ما يعيشه وبين ما يحس به ، شطحات أقرب إلى التصوف ، شطحات أقرب إلى العلمانية ، وفي كل الأحوال يهمني كباحث أن أضع يدي على لحظة التوتر التي يمكن أن نترجمها في الازدواجية عند "عبد الله العروي" الذي لا يهتم بالجانب الميتافيزيقي والنفسي – يهتم فقط بالجانب التاريخي والاجتماعي – ماذا يقول ؟ يقول إن مشاكلنا في العالم واحدة ، وإننا لا نستطيع أن نتغلب على مشاكلنا في العالم إلا بالتعلم من الآخرين ، يعطى مثالاً يقول مثلاً : "عندنا مشاكل كبرى في البناء – بناء مدينة الرباط أو مدينة الدار البيضاء وهذه المشاكل التي عندنا في بناء المدينة ، كان يمكن أن تحل لو ذهبت مجموعة من المهندسين إلى "باريس أو بروكسل أو أمستردام " لأن هذه المدن عرفت نفس المشاكل ، وهي تتسع قبل قرنين . فمشاكل كل البشر متشابهة وحوادث التاريخ متشابهة ، وعندما نستعين بالتاريخ على التاريخ ، نستعين بتاريخ الآخرين على زماننا وعلى تاريخنا ، يمكن أن نجد الحلول المناسبة لواقعنا ولأوضاعنا في ضوء الاستعانة بالتاريخ لماذا ؟ لأن عبد الله العروي يؤمن بما يسمى "مبادئ الفكر التاريخي ، ومبادئ الفكر التاريخي تقول : إن التاريخ واحد ، تختلف ثقافتنا – خصوصياتنا – أساليب تغذيتنا – ليكن تطبيق كل هذه الأمور ما يريحنا كأشخاص ، ولكن هناك نواظم مشتركة توحدنا كبشر ، يجب أن نستفيد في هذه النواظم المشتركة من منجزات الآخرين .
تحدث "هشام جعيط" في أزمة الثقافة الإسلامية ، عما سماه "التقليد الأكبر " واعتبر أن اليابانيين مارسوا في عهد ( ليجي) ما سماه التقليد الأكبر ، لعلكم تدركون أننا في العادة عندما نقول كلمة التقليد ، نقولها بالمعنى القدحي ، ليس بالجميل أن نقلد ، لكن "جعيط" عندما أضاف كلمة الأكبر إلى كلمة التقليد ، جعل المفهوم ربما يتضمن شيئين متناقضين ، وهو يريد أن يمرر لنا أن التقليد ليس دائماً مسألة معيبة أو تعاب ، بل في بعض الظروف قد يكون التقليد مقبولاً خاصة في لحظات مماثلة للحظات التي نعيشها في العالم العربي ، إذن "عبد الله العروي " يؤمن بمبادئ الفكر التاريخي : التاريخ واحد – السياسي والمثقف يمكنهما أن يلعبا دوراً كبيراً في بناء الخطوات المناسبة لكل تقدم ممكن ، لكن "جعيط" لا يقبل كلام "العروي" لأن العروي يريد أن يصل بنا إلى النتيجة الآتية :" آن الأوان لنعلن أنه يمكننا أن نتعلم من تجارب الغرب ، ومكاسب الغرب – فالغرب اليوم هو صاحب المبادرة في مجال الكشوف العلمية ، لا يمكنك أن تكون فيزيائياً اليوم دون أن تكون قد تتلمذت على النتائج الكبرى في مجال الفيزياء ، وحتى تبتكر يجب أن تكون قد اندرجت في سياق النظريات ، وفي المنظومات الفيزيائية .
إذن لابد من التعلم أولاً من الآخرين .. " جعيط " يضيع المسألة ، يعمق توتره أكثر ، يقول حرفياً : حين نطرح على العالم العربي المفاصلة الرهيبة والمخيفة بين بقاء الإسلام والولاء للماضي من جهة وبين الانطلاق في طريق المستقبل والتجديد والتغريب من جهة أخرى فإننا نحصره في جدلية "البؤس" ، يجب أن نبحث عن طريق آخر لا طريق التغريب الخالص ، ولا طريق الاكتفاء بالولاء للماضي . ويريد أن يستمر باحثاً عن سبيل يُفضي أكثر من غيره ، أو يسمح أكثر من غيره بمعالجة مشاكلنا المستعصية .
العروي تتسم نظرته بنظرة وضعية ، ولهذا فهو ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر إلى المسيحية واليهودية ديانات الكتاب ، مصيرهما واحد في التاريخ ، ما هو مصير ديانات الكتاب في التاريخ ؟ تقول التجارب المعاصرة اليوم : إن الدين حاجة بشرية – يقول – نعم ، ليكن ، مادامت تلبى حاجة البشر وهم يفكرون في مآلهم وفي مستقبلهم ، وفي الطبيعة – ليكن ، ولكن يجب أن ننتبه جيداً إلى أنه في المستوى السياسي وفي المستوى الاقتصادي يجب أن نشتغل بلغة المواثيق الوضعية ، وليس بلغة النصوص المطلقة ، فالرجل وضعي لا يرفض الديانات – ولكن يقول : إن مصيرها في التاريخ متشابك – حاجة بشرية نعم – حاجة متواصلة – نعم – ولكن هناك أساليب أخرى تسعفنا بمواجهة أفضل في إشكالاتنا في الحياة في المجال الاقتصادي ، وفي المجال السياسي والاجتماعي ، لكن في المجال الروحي يمكن أن تكون الديانات سنداً لنا يغني رؤيتنا ويغني وجداننا ويغني روحنا ويسعفنا بهدوء البال ، لهذا السبب يرى "العروي" في النهاية أنه لا نهضة في العالم العربي دون حل إشكالية الإسلام والغرب بالانبراج في طريق الثقافة الغربية – دون أن يعني هذا رفضنا للإسلام – إذ لا نزال دائماً في دائرة التوتر .
عند " العروي" جملة أذكرها جيداً ، كتب مرة في العرب والفكر التاريخي قائلاً بالحرف: " سيقول قائل إن كلامي يعني أنني أؤمن بالتبعية – يطرح هذا السؤال ويجيب نفسه قائلاً : ليكن مرحلياً إذا كان في ذلك طريق الخلاص ، إذن "العروي" لا يتحرج في أن يقف هذا الموقف – لكن "هشام جعيط" يخيفه أن يكون أمامنا خياران فقط : الخيار السلفي الأصولي الإسلامي والعودة – والخيار التغريبي ، لعله يريد أن نظل مشدودين إلى توترنا ، لعلنا نكتشف بحدس ، أو بتصور معين أن طرقاً أخرى يمكن أن تنفتح أمامنا تتجاوز هذه الثنائية : إسلام وغرب .
" جعيط والعروي" ينتقدان معاً الحركة السلفية في الإيديولوجية العربية المعاصرة ، ينتقد العروي الشيخ والليبرالي وداعية التقنية محمد عبده ، ولطفي السيد ، وسلامة موسى ، يعتبر الشيخ توفيقياً ويعتبر الليبرالي وداعية التقنية تلفيقيين يقومان بالتلفيق ، هناك من يوفق وهناك من يلفق ، الذي يلفق يخلط الأوراق والذي يوفق يكون أمامه عنصران يضع الواحد منهما بجوار الآخر في محاولة للتوفيق بينهما .
ما معنى أن جعيط والعروي ينتقدان التصورات السلفية ، معناه أنهما لا يمجدان الذات ، لأن الذات في نظرهما ذات تاريخية ، والذات التاريخية قابلة للتحول في الزمان ، والمجموعة العربية حملت راية الإسلام ، المجموعة العربية تعلمت من المرجعية الغربية ، هل منكم من ينكر أننا خلال القرن التاسع عشر وفدت علينا مرجعية جديدة في الفكر وفي الثقافة وتعلمنا منها ؟ كان "محمد علي" في مصر وكان البايات والدايات في الجزائر وفي تونس ، وهم ممثلو السلطة العثمانية في تونس والجزائر قد انتبهوا في القرن التاسع عشر إلى تأخرنا .
طرح "محمد علي " السؤال : كيف تقدمت أوروبا في المستوى السياسي قبل المثقفين قبل الطهطاوي ، وقبل "جمال الدين الأفغاني" وقبل "محمد عبده" ، طرح "محمد علي" السؤال وأجاب ، تقدمت أوروبا بفضل وجود دولة مركزية وطنية ، ونحن لا نملك دولة وطنية ، لكن ، ما معنى دولة وطنية ؟ أجابه الخبراء آنذاك وقد تعلموا في المدارس الفرنسية : إن الدولة الوطنية، تعني جيشاً قوياً – تربية جديدة ، وإمكانات اقتصادية مالية فلا دولة دون جيش ، ولا جيش دون تعليم ، ولا تعليم دون إدارة عصرية جديدة ، هذا نموذج الدولة الوطنية .
وبدأت رحلتنا مع الدولة الوطنية ، ماذا فعل الفرنسيون عندما جاءوا إلى المغرب ؟ وضعوا العلامات الأولى للإدارة والاقتصاد الجديد ، والمدارس الأجنبية لتعليم جديد وكونوا الأطر الأولى ، " ومحمد علي باشا" أرسل البعثات الأولى ، الأطباء الأوائل والمهندسون الأوائل ، كلهم تعلموا في النظام الغربي – ماذا حصل ؟ هو أننا منذ ذلك العهد بدأنا نتهجى أبجدية المرجعية الثقافية الفكرية الغربية فأصبحت شيئاً فشيئاً ، خلال المرحلة الاستعمارية وما بعدها جزءاً من ذاتنا ، لكن على المستوى الذهني والوجداني بقينا دائماً ننظر إلى الغرب وإلى الآخر كخارج ، في حين أنه ونحن نتعلم منه خلال القرنين الماضيين لم يعد خارجاً مطلقاً ، أوولناه ، فهمناه بطريقتنا الخاصة ، ترجمناه ، علمنا على تبيئة مفاهيمه ، استوطن جامعاتنا ، ذهب طلبتنا إلى جامعاته ، علمهم في جامعاته ما يعلمونه في جامعاتنا ، ومع ذلك عندنا لا شعورياً وشعورياً نوع من التنكر ، لا شعورياً إن شئتم لهذا الآخر ، بحكم أننا نخلط بين حربنا السياسية معه صراعنا السياسي معه وبين مكاسبه في مجال الثقافة والحضارة ، وكان يجب ألا نخلط بين صراعنا السياسي المتواصل معه ، وبين مكاسبه التي ليس له الحق وحده في أن ينعم بمكاسب التقنية ، وحسناتها ، سيقول لي أحدكم : ولكن للتقنية شرورها أيضاً ، ولكن مزايا الغرب ، هي أن ديناميته التاريخية تجعله دائماً يحاول دون يأس من أجل فهم التاريخ الإسلامي .
والأستاذ الجابري نفس المشروع ، وهما معاً يفكران في شىء واحد ، وهو أن التراث وأن الظواهر الإسلامية ليست ملكاً لجماعة معينة ، الإسلام ملك للأمة كلها ، ملك لنا جمعياً وليس من حق الإسلاميين وحدهم ، أو التيارات المحسوبة على الصحوة الإسلامية أو على الإسلام السياسي أو على التيار السلفي أن تقول وحدها إنها معنية بالشأن الإسلامي .
محمد أركون ، ومحمد عابد الجابري، يشتغلان منذ ما يزيد عن ربع قرن بالنصوص الإسلامية وبالظواهر التراثية في إطار أن مشكلة العرب هي مشكلة ذهنية ، وأن سبب هذه المشكلة هو أننا لانزال نحمل معطيات تنتمي إلى تاريخنا في العصور الوسطى على مستوى آلية التفكير والنظر إلى الأمور . هناك ثورة حدثت في أوروبا في القرن السادس عشر ، هذه الثورة تواصلت وأثمرت مبدئين كبيرين .
المبدأ الأول : النسبية .
المبدأ الثاني : التاريخية ، كل شىء نسبي ، وكل ما هو تاريخي تعتريه أهوال الزمن في التاريخ يتغير يتقلص يتسع تضاف إليه أمور تنقص منه أمور . الوعي التاريخي نحن نتعلم منه أيضاً النسبية عندما نتعلم المبادئ الكبرى للفكر المعاصر ، بقى ديننا متخشباً استعمل آليات في التفكير تعود إلى عصورنا الوسطى فيريد محمد عابد الجابري أن يقول لنا : إن نهضتنا تبدأ بماذا؟ تبدأ بنقد العقل لأننا نفكر بطريقة خطأ ، لو كنا نفكر بطريقة أخرى نستفيد فيها من تجارب الآخرين من مناهجهم من اطروحاتهم من كل المكاسب التي حققوها خلال الأربعمائة سنة الأخيرة في عمر التاريخ البشري ، لكنا نتحدث لغة يفهمونها ولكنا نفهم لغتهم، نحن الآن بيننا وبين الآخرين كثير من التصامم ، فكثير من الأمور التي يقولونها نسمعها دون أن نفهمها وكثير من الأمور التي يسمعوننا نرددها يستمعون إليها دون أن يعرفوا مقاصدنا منها ، فهناك نوع من اللغة التي تتقاطع دون أن تثمر ما يطور التواصل بيننا وبينهم . إذن الجابري لا يرى أي حرج في الاستنجاد بالمفاهيم الجديدة في الفكر المعاصر ، والعروي نفس الشىء مع فارق أساسي ليس بينهما مع فارق أساسي في المقاربة الجابري ، والعروي ، وجعيط ، ومحمد أركون إنهم جمعياً يعتبرون أن العالم غير الأوروبي هو الذي يضفي على المفاهيم والنظريات الأوروبية طابعها الكوني كل النظريات التي نشأت في الغرب غربية في علم الاجتماع في الأنتربولوجيا في علم النفس هي غربية ومتى تصبح كونية ؟
عندما نقوم نحن كمستقبلين بإعادة النظر فيها بتبيئتها وتوطينها في فكرنا بتعديلها بإضافة معطياتنا المحلية . عندما كتب فرويد في مجال التحليل النفسي كتبه المعروفة ، وقام بتحليل الظواهر النفسية اللاشعورية للمواطن الأوروبي في النمسا ، وفي سويسرا ، وفي أوروبا عموماً كانت نتائجه محصورة بالمحيط التاريخي الاجتماعي الأوروبي .
متى أصبحت مفاهيم التحليل النفسي كونية ؟
عندما قمنا بإجرائها في مناطق أخرى غير أوروبية وحصل ونحن نجريها أن مارسنا عليها النقد والتعديل والتقليص والإضافة في ضوء بيئتنا ، وفي ضوء معطياتنا الاجتماعية والتاريخية النفسية ، فنحن الذين نقلنا مفاهيمهم من مستواها المخصوص بأوروبا إلى مستواها الذي أصبح يمتلك طابعاً كونياً ، ولهذا قلت لكم قبل قليل إن لنا في مكاسب الحضارة الغربية في المناهج ، والمعارف نصيبا ، إضافة إلى ذلك نحن نعرف أن الحضارة الإسلامية تشكل رافداً قوياً من روافد الحضارة المعاصرة ثم الحضارات في التاريخ حتى عندما تنسب إلى أعراق أو جغرافيات . فهي تنسب بطريقة نسبية عندما نقول: إن الحضارة الأوروبية المعاصرة حضارة أوروبية لأنها أوروبية النشأة في المنشأ ، ولكن بعد ذلك ستصبح حضارة معاصرة وكفى ، عندما نستعملها ونطورها ونستوعبها ، وهذا الكلام الذي أقوله لكم اليوم كتبه الأستاذ عبد الله العروي بوضوح أفضل .سنة 1975طلبت منه موسوعة فرنسية مشهورة اسمها(يونيفرساليس ) أن يكتب مادة أوروبا في هذه الموسوعة ، فكر كثيراً وطلب منهم أن يسمحوا له بتغيير العنوان فقالوا له : نحن نريد منك أن تكتب مادة أوروبا فكيف تغير العنوان ؟ أجابهم بأنه يريد أن يكتب أوروبا وغير أوروبا لم يجدوا أية حرج فقالوا له : اكتب المادة ، وعندما كتب المادة صدرت في الموسوعة المذكورة ، ثم صدرت في كتابه أزمة المثقفين العرب ، ثم صدرت في كتابه باللغة العربية " ثقافتنا في ضوء التاريخ" وهي موجودة بنفس العنوان أوروبا وغير أوروبا ، ماذا قال في هذه المقالة ؟
قال : إن أوروبا ذات يوم في القرن التاسع عشر وجدت نفسها تكتسح العالم ، لم يكن الأمر أمراً إرادياً خالصاً ، كان الأمر يكاد يكون حتمياً في إطار تطور النظام الرأسمالي ، كان لابد لأوروبا أن تبحث عن أسواق ولا بد لها أن تبحث عن مواد خام ، فوجدت نفسها تغزو العالم . قبل أن تغزو العالم كان مبشروها قد انتشروا في العالم للتبشير بالمسيحية ، بعد أن غزت العالم كان معلموها قد لقنوا لغاتها إلى الدول التي أصبحت تابعة إلى أوروبا ، فأصبح العالم كله يتحدث اللغات الأوروبية ويعرف المسيحية ، والاقتصاد الرأسمالي والإدارة العصرية، وهذا ما حصل في التاريخ ، وهذا الأمر لا يمكننا أن نرفضه بسذاجة بشرية ولا أن نقبله على علاته ، ولكنه أمر حصل فيقول العروي : أصبح العالم يتحدث بطريقة أوروبية لكن المهم أن نعرف إن أفريقيا نطقت باللغات الأوروبية ، واحتفظت بخصوصياتها ، وآسيا نطقت باللغات الأوروبية واحتفظت بخصوصياتها .
متى تحولت أوروبا إلى مشروع عالمي ؟
عندما تحدث الآخرون بلغاتها ، واللغة هنا ليست اللغة المنطوقة أو الملفوظة أو المكتوبة منطق اللغة هو العقلية منطق الفكر الجديد ما يعرف بالحداثة عندما أشاعت أوروبا في العالم هذا النوع من الحداثة بطرق مختلفة وبأساليب متنوعة في الاستيعاب ، ليست كل الدول التي استعمرت حصلت فيها الحداثة بنفس الوتيرة ونفس الشكل بدرجات .
ما هو المطلوب الآن ؟ المطلوب أن نتجاوز أوروبا ، وقال العروي حرفياً : إن نقداً عنيفاً وقوياً لأوروبا يعيد بناءها لم تساهم فيه أوروبا وحدها بل ستساهم فيه أوروبا كما سيساهم فيه غير الأوروبيين ، ونحن منهم ، وانتقد أوروبا وبين حدود مآرفها وبين دور الشعوب الأخرى والمعارف القادمة من قارات أخرى في إغناء المشروع الثقافي الأوروبي .
الإسلام والغرب : تريد هذه الورقة أن تدافع عن مبدأ التواصل النقدي الذي يمكن أن يسمح بعلاقات أكثر توازناً بيننا وبين الآخرين ، وكما قلت لكم : إن هذه الورقة قد اعتنت بالجانب الثقافي والجانب الفكري وليس الجانب السياسي ، لو شئنا أن نعتني بالجانب السياسي لقلنا كلاماً تعرفونه جيداً ، وهو الكلام الذي يتحدث عن تناقض المصالح بيننا وبين الغرب ، وعن الويلات والحرائق التي ألحقها بنا الغرب في ماضينا ، وفي حاضرنا ، ولكن لم يكن هذا هو هدفي ، كنت أفكر في طريقة أخرى ، هي الطريقة التي رسم ملامحها الكبرى هؤلاء المفكرون الذين تحدثنا عنهم ، وهم ينظرون بعيداً في اتجاه ألا تجعلنا نظرتنا لأوروبا المستعمرة أو أوروبا التي بيننا وبينها خصام سياسي من أجل مصالح معينة ألا تجعلنا نخفي الإيجابيات ، والمعطيات التي يحملها التاريخ الأوروبي المعاصر . لو شئت أن أوجز في خلاصة سريعة بعض ما قلته ، وبعض ما كتبته في هذه المحاضرة لقلت : إن المفكرين المغاربة الذين اعتنينا بنصوصهم يرفضون المواقف التي تكتفي بالتخندق السياسي ، يرفضون المواقف المؤججة للصراع السياسي ، لا يريدون تأجيج الصراع السياسي بيننا وبين الآخرين .
يقبلون التصورات الأكثر تاريخية أي التصورات التي تقبل أن ننظر إلى واقعنا وإلى ماضينا نظرة موضوعية بدون حسابات سياسية ظرفية عابرة ، فتاريخ الحضارات والثقافات هو تاريخ التواصل ، وتاريخ المثاقفة وتاريخ النقد وإعادة النقد ، وتاريخ الاستيعاب والتجاوز لا تاريخ التموقعات ذات الصبغة الحربية . التواصل فعل حصل في التاريخ ، ويمكن أن يحصل مرة أخرى في التاريخ عندما تتوفر الإرادات المناسبة لذلك . والحضارة الغربية ليست ملكا لأوروبا ولا للغرب ، الحضارة الغربية اليوم هي فعل من أفعال الإبداع الحضاري في التاريخ، ولنا كما قلت لكم ، وأؤكد نصيب في هذه الأفعال المبدعة في التاريخ ، لهذا وضعت للمحاضرة عنوانا فرعيا تضمن المفاهيم الآتية : مفهوم الجدلية والدينامية ، مفهوم الاستيعاب ، ومفهوم التجاوز ، لا أدري هل وفقت فيما قدمت لكم وشكراً على عنايتكم .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Allo !